فصل: ذكر عود خوارزم شاه إلى الخطا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر قتل ابن خرميل وحصر هراة:

ثم إن ابن خرميل، صاحب هراة، رأى سوء معاملة عسكر خوارزم شاه للرعية، وتعديهم إلى الأموال، فقبض عليهم وحبسهم، وبعث رسولاً إلى خوارزم شاه يعتذر، ويعرفه ما صنعوا، فعظم عليه، ولم يمكنه محاقته لاشتغاله بقتال الخطا، فكتب إليه يستحسن فعله، ويأمره بإنفاذ الجند الذين قبض عليهم لحاجتاه إليهم، وقال له: إنني قد أمرت عز الدين جلدك بن طغرل، صاحب الخام، أن يكون عندك لما أعلمه من عقله، وحسن سيرته؛ وأرسل إلى جلدك يأمره بالمسير إلى هراة وأمر إليه أن يحتال في القبض على حسين بن خرميل ولو أول ساعة يلقاه.
فسار جلدك في ألفي فارس، وكان أبوه طغرل، أيام السلطان سنجر، والياً بهراة، فهوى إليها بالأشواق يختارها على جميع خراسان، فلما قارب هراة أمر ابن خرميل الناس بالخروج لتلقيه؛ وكان للحسين وزير يعرف بخواجه الصاحب، وكان كبياً قد حنكته التجارب، فقال لابن خرميل: لا تخرج إلى لقائه، ودعه يدخل إليك منفرداً، فإنني أخاف أن يغدر بك، وأن يكون خوارزم شاه أمر بذلك. فقال: لا يجوز أن يقدم مثل هذا الأمير ولا ألتقيه، وأخاف أن يضطغن ذلك علي خوارزم شاه، وما أظنه يتجاسر علي.
فخرج إليه الحسين بن خرميل، فلما بصر كل واحد منهما بصاحبه ترجل للالتقاء، وكان جلدك قد أمر أصحابه بالقبض عليه، فاختلطوا بهما، وحالوا بين ابن خرميل وأصحابه، وقبضوا عليه، فانهزم أصحابه ودخلوا المدينة وأخبروا الوزير بالحال، فأمر بإغلاق الباب والطوع إلى الأسوار، واستعد للحصار، ونزل جلدك على البلد، وأرسل إلى الوزير يتهدده، إن لم يسلم البلد، بقتل ابن خرميل، فنادى الوزير بشعار غياث الدين محمود الغوري، وقال لجلدك: لا أسلم البلد إليك، ولا إلى الغادر ابن خرميل، وإنما هو لغياث الدين، ولأبيه قبله.
فقدموا ابن خرميل إلى السور، فخاطب الوزير، وأمره بالتسليم، فلم يفعل، فقتل ابن خرميل، وهذه عاقبة الغدر، فقد تقدم من أخباره عند شهاب الدين الغوري ما يدل على غدره، وكفرانه الإحسان ممن أحسن إليه.
فلما قتل ابن خرميل كتب جلدك إلى خوارزم شاه بجلية الحال، فأنفذ خوارزم شاه إلى كزلك خان، والي نيسابور، وإلى أمين الدين أبي بكر، صاحب زوزن، يأمرهم بالمسير إلى هراة وحصارها وأخذها، فسارا في عشرة آلاف فارس، فنزلوا على هراة، وراسلوا الوزير بالتسليم، فلم يلتفت إليهم، وقال: ليس لكم من المحل ما يسلم إليكم مثل هراة، لكن إذا وصل السلطان خوارزم شاه سلمتها إليه. فقاتلوه، وجدوا في قتاله، فلم يقدروا عليه.
وكان ابن خرميل قد حصن هراة، وعمل لها أربعة أسوار محكمة، وحفر خندقها، وشحنها بالميرة، فلما فرغ من كل ما أراد قال: بقيت أخاف على هذه المدينة شيئاً واحداً، وهو أن تسكر المياه التي لها أياماً كثيرة، ثم ترسل دفعة واحدة فتخرق أسوارها. فلما حصرها هؤلاء سمعوا قول ابن خرميل، فسكروا المياه حتى اجتمعت كثيراً، ثم أطلقوها على هراة فأحاطت بها ولم تصل إلى السور لأن أرض المدينة مرتفعة، فامتلأ الخندق ماء، وصار حولها وحلاً، فانتقل العسكر عنهم، ولم يمكنهم القتال لبعدهم عن المدينة، فأقاموا مدة حتى نشف الماء، فكان قول ابن خرميل من أحسن الحيل.
ونعود إلى قتال خوارزم شاه الخطا وأسره؛ وأما خوارزم شاه فإنه دام القتال بينه وبين الخطا، ففي بعض الأيام اقتتلوا، واشتد القتال، ودام بينهم، ثم انهزم المسلمون هزيمة قبيحة، وأسر كثير منهم، وقتل كثير منهم، وكان من جملة الأسرى خوارزم شاه، وأسر معه أمير كبير يقال له فلان بن شهاب الدين مسعود أسرهما رجل واحد.
ووصلت العساكر الإسلامية إلى خوارزم، ولم يروا السلطان معهم، فأرسلت أخت كزلك خان، صاحب نيسابور، وهو يحاصر هراة، وأعلمته الحال، فلما أتاه الخبر سار عن هراة ليلاً إلى نيسابور، وأحس به الأمير أمين الدين أبو بكر، صاح زوزن، فأراد هو ومن عنده من الأمراء منعه، مخافة أن يجري بينهم حرب يطمع بسببها أهل هراة فيهم، فيخرجون إليهم فيبلغون منهم ما يريدونه، فأمسكوا عن معارضته.
وكان خوارزم شاه قد خرب سور نيسابور لما ملكها من الغورية، فشرع كزلك خان يعمره، وأدخل إليها الميرة، واستكثر من الجند، وعزم على الاستيلاء على خراسان إن صح فقد السلطان.
وبلغ خبر عدم السلطان إلى أخيه علي شاه وهو بطبرستان، فدعا إلى نفسه، وقطع خطبة أخيه واستعد لطلب السلطنة، واختلطت خراسان اختلاطاً عظيماً.
وأما السلطان خوارزم شاه، فإنه لما أسر قال له ابن شهاب الدين مسعود: يجب أن تذع السلطنة في هذه الأيام، وتصير خادماً لعلي أحتال في خلاصك؛ فشرع يخدم ابن مسعود، ويقدم له الطعام، ويخلعه ثيابه وخفه، ويعظمه، فقال الرجل الذي أسرهما لابن مسعود: أرى هذا الرجل يعظمك، فمن أنت؟ فقال: أنا فلان، وهذا غلامي؛ فقام إليه وأكرمه، وقال: ولولا أن القوم عرفوا بمكانك عندي لأطلقتك؛ ثم تركته أياماً، فقال له ابن مسعود: إني أخاف أن يرجع المنهزمون، فلا يراني أهلي معهم، فيظنون أني قتلت، فيعملون العزاء والمأتم، وتضيق صدورهم لذلك، ثم يقتسمون مالي فأهلك، وأحب أن تقرر علي شيئاً من المال حتى أحمله إليك؛ فقرر عليه مالاً، وقال له: أريد أن تأمر رجلاً عاقلاً يذهب بكتابي إلى أهلي ويخبرهم بعاقبتي، ويحضر معه من يحمل المال.
ثم قال: إن أصحابكم لا يعرفون أهلنا، ولكن هذا غلامي أثق به، ويصدقه أهلي؛ فأذن له الخطائي بإنفاذه، فسيره وأرسل معه الخطائي فرساً، وعدة من الفرسان يحمونه، فساروا حتى قاربوا خوارزم، وعاد الفرسان عن خوارزم شاه، ووصل خوارزم شاه إلى خوارزم، فاستبشر به الناس وضربت البشائر، وزينوا البلد، وأتته الأخبار بما صنع كزلك بنيسابور، وبما صنع أخوه علي شاه بطبرستان.

.ذكر ما فعله خوارزم شاه بخراسان:

لما وصل خوارزم شاه إلى خوارزم أتته الأخبار بما فعله كزلك خان وأخوه علي شاه وغيرهما، فسار إلى خراسان، وتبعته العساكر، فتقطعت، ووصل هو إليها في اليوم السادس ومعه ستة فرسان، وبلغ كزلك خان وصوله، فأخذ أمواله وعساكره وهرب نحو العراق، وبلغ أخاه علي شاه، فخافه، وسار على طريق قهستان ملتجئاً إلى غياث الدين محمود الغوري، صاحب فيروزكوه، فتلقاه، وأكرمه، وأنزله عنده.
أما خوارزم شاه فإنه دخل نيسابور، وأصلح أمرها، وجعل فيها نائباً، وسار إلى هراة، فنزل عليها مع عسكره الذين يحاصرونه، وأحسن إلى أولئك الأمراء، ووثق بهم لأنهم صبروا على امتثال أمره في تلك الحال ولم يتغيروا، ولم يبلغوا من هراة غرضاً بحسن تدبير ذلك الوزير؛ فأرسل خوارزم شاه إلى الوزير يقول له: إنك وعدت عسكري أنك تسلم المدينة إذا حضرت، وقد حضرت فسلم. فقال: لا أفعل، لأني أعرف أنكم غدارون، لا تبقون على أحد، ولا أسلم البلد إلا إلى غياث الدين محمود.
فغضب خوارزم شاه من ذلك، وزحف إليه بعسكره، فلم يكن فيه حيلة، فاتفق جماعة من أهل هراة وقالوا: هلك الناس من الجوع والقلة، وقد تعطلت علينا معايشنا، وقد مضى سنة وشهر، وكان الوزير يعد بتسليم البلد إلى خوارزم شاه إذا وصل إليه، وقد حضر خوارزم شاه ولم يسلم، ويجب أن نحتال في تسليم البلد والخلاص من هذه الشدة التي نحن فيها.
فانتهى ذلك إلى الوزير، فبعث إليهم جماعة من عسكره، وأمرهم بالقبض عليهم، فمضى الجند إليهم، فثارت فتنة في البلد عظم خطبها، فاحتاج الوزير إلى تداركها بنفسه، فمضى لذلك، فكتب من البلد إلى خوارزم شاه بالخبر، وزحف إلى البلد وأهله مختلطون، فخربوا برجين من السور، ودخلوا البلد فملكوه، وقبضوا على الوزير، فقتله خوارزم شاه، وملك البلد، وذلك سنة خمس وستمائة، وأصلح حاله، وسلمه إلى خاله أمير ملك، وهو من أعيان أمرائه، فلم يزل بيده حتى هلك خوارزم شاه.
وأما ابن شهاب الدين مسعود فإنه أقام عند الخطا مديدة، فقال له الذي استأسره يوماً: إن خوارزم شاه قد عدم فإيش عندك من خبره؟ فقال له: أما تعرفه؟ قال: لا! قال: هو أسيرك الذي كان عندك. فقال: لم لم تعرفني حتى كنت أخدمه، وأسير بين يديه إلى مملكته؟ قال: خفتكم عيه، فقال الخطائي: سر بنا إليه، فسار إليه، فأكرمهما، وأحسن إليهما، وبالغ في ذلك.

.ذكر قتل غياث الدين محمود:

لا سلم خوارزم شاه هراة إلى خاله أمير ملك وسار إلى خوارزم، أمره أن يقصد غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن سام الغوري، صاحب الغور وفيروزكوه، وأن يقبض عليه وعلى أخيه علي شاه بن خوارزم شاه، ويأخذ فيروزكوه من غياث الدين.
فسار أمير ملك إلى فيروزكوه؛ وبلغ ذلك إلى محمود، فأرسل يبذل الطاعة ويطلب الأمان، فأعطاه ذلك، فنزل إليه محمود، فقبض عليه أمير ملك، وعلى علي شاه أخي خوارزم شاه، فسألاه أن يحملهما إلى خوارزم شاه ليرى فيهما رأيه، فأرسل إلى خوارزم شاه يعرفه الخبر، فأمره بقتلهما، فقتلا في يوم واحد، واستقامت خراسان كلها لخوارزم شاه، وذلك سنة خمس وستمائة أيضاً.
وغياث الدين هذا هو آخر ملوك الغورية، وقد كانت دولتهم من أحسن الدول سيرة، وأعدلها وأكثرها جهاداً، وكان محمود هذا عادلاً، حليماً، كريماً، من أحسن الملوك سيرة وأكرمهم أخلاقاً، رحمه الله تعالى.

.ذكر عود خوارزم شاه إلى الخطا:

لما استقر أمر خراسان لخوارزم شاه وعبر نهر جيحون، جمع له الخطا جمعاً عظيماً وساروا إليه، والمقدم عليهم شيخ دولتهم، القائم مقام الملك فيهم، المعروف بطاينكوه، وكان عمره قد جاوز مائة سنة، ولقي حروباً كثيرة، وكان مظفراً، حسن التدبير والعقل، واجتمع خوارزم شاه وصاحب سمرقند، وتصافوا هم والخطا سنة ست وستمائة، فجرت حروب لم يكن مثلها شدة وصبراً، فانهزم الخطا هزيمة منكرة، وقتل منه وأسر خلق لا يحصى.
وكان فيمن أسر طاينكوه مقدمهم، وجيء به إلى خوارزم شاه، فأكرمه، وأجلسه على سريرنه، وسيره إلى خوارزم، ثم قصد خوارزم شاه إلى بلاد ما وراء النهر، فملكها مدينة مدينة، وناحية ناحية، حتى بلغ إلى مدينة أوزكند، وجعل نوابه فيها وعاد إلى خوارزم ومعه سلطان سمرقند، وكان من أحسن الناس صورة، فكان أهل خوارزم يجتمعون حتى ينظروا إليه، فزوجه خوارزم شاه بابنته، ورده إلى سمرقند، وبعث معه شحنة يكون بسمرقند على ما كان رسم الخطا.

.ذكر غدر صاحب سمرقند بالخوارزميين:

لما عاد صاحب سمرقند إليها، ومعه شحنة لخوارزم شاه، أقام معه نحو سنة، فرأى من سوء سيرة الخوارزميين، وقبح معاملتهم، ما ندم معه على مفارقة الخطا، فأرسل إلى ملك الخطا يدعوه إلى سمرقند ليسلمها إليه، ويعود إلى طاعته، وأمر بقتل كل من في سمرقند من الخوارزمية ممن سكنها قديماً وحديثاً، وأخذ أصحاب خوارزم شاه، فكان يجعل الرجل منهم قطعتين ويعلقهم في الأسواق كمنا يعلق القصاب اللحم، وأساء غاية الإساءة، ومضى إلى القلعة ليقتل زوجته ابنة خوارزم شاه، فأغلقت الأبواب، ووقفت بجواريها تمنعه، وأرسلت إليه تقول: أنا امرأة وقتل مثلي قبيح ولم يكن مني إليك ما استوجب به هذا منك، ولعل تركي أحمد عاقبة، فاتق الله في! فتركها وكل بها من يمنعها التصرف في نفسها.
ووصل الخبر إلى خوارزم شاه فقامت قيامته، وغضب غضباً شديداً، وأمر بقتل كل من بخوارزم من الغرباء، فمنعته أمه عن ذلك، وقالت: إن هذا البلد قد أتاه الناس من أقطار الأرض، ولم يرض كلهم بما كان من هذا الرجل، فأمر بقتل أهل سمرقند، فنهته أمه، فانتهى، وأمر عساكره بالتجهيز إلى ما وراء النهر، وسيرهم أرسالاً، كلما تجهز جماعة عبروا جيحون، فعبر منهم خلق كثير لا يحصى، ثم عبر هو بنفسه في آخرهم، ونزل على سمرقند، وأنفذ إلى صاحبها يقول له: قد فعلت ما لم يفعله مسلم، واستحللت من دماء المسلمين ما لا يفعله عاقل لا مسلم ولا كافر، وقد عفا الله عما سلف، فأخرج من البلاد وامض حيث شئت؛ فقال: لا أخرج وافعل ما بدا لك.
فأمر عساكره بالزحف، فأشار عليه بعض من معه بأن يأمر بعض الأمراء، إذا فتحوا البلد، أن يقصدوا الدرب الذي يسكنه التجار، فيمنع من نهبه والتطرق إليهم بسوء، فإنهم غرباء، وكلهم كارهون لهذا الفعل. فأمر بعض الأمراء بذلك، وزحف، ونصب السلاليم على السور، فلم يكن بأسرع من أن أخذوا البلد، وأذن لعسكره بالنهب، وقتل من يجدونه من أهل سمرقند، فنهب البلد، وقتل أهله، ثلاثة أيام، فيقال إنهم قتلوا منهم مائتي ألف إنسان، وسلم ذلك الدرب الذي فيه الغرباء، فلم يعدم منهم الفرد ولا الآدمي الواحد.
ثم أمر بالكف عن النب والقتل، ثم زحف إلى القلعة فرأى صاحبها ما ملأ قلبه هيبة وخوفاً، فأرسل يطلب الأمان، فقال: لا أمان لك عندي؛ فزحفوا عليها. فملكوها، وأسروا صاحبها، وأحضروه عند خوارزم شاه، فقبل الأرض وطلب العفو، فلم يعف عنه، وأمر بقتله، فقتل صبراً، وقتل معه جماعة من أقاربه، ولم يترك أحداً ممن ينسب إلى الخانية، ورتب فيها وفي سائر البلاد نوابه، ولم يبق أحد معه في البلاد حكم.

.ذكر الوقعة التي أفنت الخطا:

لما فعل خوارزم شاه بالخطا ما ذكرناه مضى من سلم منهم إلى ملكهم، فإنه لم يحضر الحرب، فاجتمعوا عنده؛ وكان طائفة عظيمة من التتر قد خرجوا من بلادهم، حدود الصين قديماً، ونزلوا وراء بلاد تركستان، وكان بينهم وبين الخطا عداوة وحروب، فلما سمعوا بما فعله خوارزم شاه بالخطا قصدوهم مع ملكهم كشلي خان، فلما رأى ملك الخطا ذلك أرسل إلى خوارزم شاه يقول له: أما ما كان منك من أخذ بلادنا وقتل رجالنا فعفو عنه، وقد أتى من هذا العدو من لا قبل لنا به، وإنهم إن انتصروا علينا، وملكونا، فلا دافع لهم عنك، والمصلحة أن تسير إلينا بعساكرك وتنصرنا على قتالهم، ونحن نحلف لك أننا إذا ظفرنا بهم لا نتعرض إلى ما أخذت من البلاد، ونقنع بما في أيدينا.
وأرسل إليه كشلي خان ملك التتر يقول: إن هؤلاء الخطا أعداؤك وأعداء آبائك وأعداؤنا، فساعدنا عليهم، ونحلف أننا إذا انتصرنا عليهم لا نقرب بلادك، ونقنع بالمواضع التي ينزلونها، فأجاب كلاً منهما: إنني معك، ومعاضدك على خصمك.
وسار بعسكره إلى أن نزل قريباً من الموضع الذي تصافوا فيه، فلم يخالطهم مخالطة يعلم بها أنه من أحدهما، فكانت كل طائفة منهم تظن أنه معها، وتواقع الخطا والتتر، فانهزم الخطا هزيمة عظيمة، فمال حينئذ خوارزم شاه، وجعل يقتل، ويأسر، وينهب، ولم يترك أحداً ينجو منهم، فلم يسلم منهم إلا طائفة يسيرة مع ملكهم في موضع من نواحي الترك يحيط به جبل ليس إليه طريق إلا من جهة واحدة، تحصنوا فيه؛ وانضم إلى خوارزم شاه منهم طائفة، وساروا في عسكره، وأنفذ خوارزم شاه إلى كشلي خان ملك التتر يمن عليه بأنه حضر لمساعدته، ولولاه لما تمكن من الخطا، فاعترف له كشلي خان بذلك مدة، ثم أرسل إليه يطلب منه المقاسمة على بلاد الخطا، وقال: كما أننا اتفقنا على إبادتهم ينبغي أن نقتسم بلاهم؛ فقال: ليس لك عندي غير السيف، ولستم بأقوى من الخطا شوكة، ولا أعز ملكاً، فإن قنعت بالمساكتة، وإلا سرت إليك، وفعلت بك شراً مما فعلت بهم.
وتجهز وسار حتى نزل قريباً منهم، وعلم خوارزم شاه أنه لا طاقة له به، فكان يراوغه، فإذا سار إلى موضع قصد خوارزم شاه أهله وأثقالهم فينهبها، وإذا سمع أن طائفة سارت عن مواطنهم سار إليها فأوقع بها، فأرسل إليه كشلي خان يقول له: ليس هذا فعل الملوك! هذا فعل اللصوص، وإلا إن كنت سلطاناً، كما تقول، فيجب أن نلتقي، فإما أن تهزمني وتملك البلاد التي بيدي، وإما أفعل أنا بك ذلك.
فكان يغالطه ولا يجيبه إلى ما طلب، لكنه أمر أهل الشاش وفرغاته وأسفيجاب وكاسان، وما حولها من المدن التي لم يكن في الدنيا أنزه منها، ولا أحسن عمارة، بالجلاء منها، واللحاق ببلاد الإسلام، ثم خربها جميعها خوفاً من التتر أن يملكوها.
ثم اتفق خروج هؤلاء التتر الآخر الذين خربوا الدنيا وملكهم جنكزخان النهرجي على كشلي خان ملك التتر الأول، فاشتغل بهم كشلي خان عن خوارزم شاه، فخلا وجهه، فعبر النهر إلى خراسان.

.ذكر ملك نجم الدين ابن الملك العادل خلاط:

في هذه السنة ملك الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن مالك العادل أبي بكر ابن أيوب مدينة خلاط.
وسبب ذلك أنه كان بمدينة ميافارقين من أبيه، فلما كان من ملك بلبان خلاط ما ذكرناه، قصد هو مدينة موش، وحصرها، وأخذها، وأخذ معها ما يجاورها. وكان بلبان لم تثبت قدمه حتى منعه، فلما ملكها طمع في خلاط، فسار إليها، فزهمه بلبان، كما ذكرناه أيضاً، فعاد إلى بلده، وجمع وحشد، وسير إليه أبوه جيشاً، فقصد خلاط، فسار إليه بلبان، فتصافا واقتتلا، فانهزم بلبان، وتمكن نجم الدين من البلاد، وازداد منها.
ودخل بلبان خلاط واعتصم بها، وأرسل رسولاً إلى مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان، وهو صاحب أرزن الروم، يستنجده على نجم الدين، فحضر بنفسه ومعه عسكره، فاجتمعا، وهزما نجم الدين، وحصرا موش، فأشرف الحصن على أن يملك، فغدر ابن قلج أرسلان بصاحب خلاط وقتله طمعاً في البلاد، فلما قتله سار إلى خلاط، فمنعه أهلها عنها، فسار إلى ملازكرد، فرده أهلها أيضاً، وامتنعوا عليه، فلما لم يجد في شيء من البلاد مطمعاً عاد إلى بلده.
فأرسل أهل خلاط إلى نجم الدين يستدعونه إليهم ليملكوه، فحضر عندهم، وملك خلاط وأعمالها سوى اليسير منها، وكره الملوك المجاورون له ملكه لها خوفاً من أبيه، وكذلك أيضاً خافه الكرج وكرهوه، فتابعوا الغارات على أعمال خلاط وبلادها، ونجم الدين مقيم بخلاط لا يقدر على مفارقتها، فلقي المسلمون من ذلك أذى شديداً.
واعتزل جماعة من عسكر خلاط، واستولوا على حصن وان، وهو من أعظم الحصون وأمنعها، وعصوا على نجم الدين، واجتمع إليهم جمع كثير، وملكوا مدينة أرجيش، فأرسل نجم الدين إلى أبيه الملك العادل يعرفه الحال، ويطلب منه أن يمده بعسكر، فسير إليه أخاه الملك الأشرف موسى بن العادل في عسكر، فاجتمعا في عسكر كثير، وحصرا قلعة وان وبها الخلاطية، وجدوا في قتالهم، فضعف أولئك عن مقاومتهم، فسلموها صلحاً وخرجوا منها، وتسلمها نجم الدين، واستقر ملكه بخلاط وأعمالها، وعاد أخوه الأشرف إلى بلده حران والرها.

.ذكر غارات الفرنج بالشام:

وفي هذه السنة كثر الفرنج الذين بطرابلس وحصن الأكراد، وأكثروا الإغارة على بلد حمص وولاياتها، ونازلوا مدينة حمص، وكان جمعهم كثيراً لم يكن لصاحبها أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه بهم قوة ولا يقدر على دفعهم ومنعهم، فاستنجد الظاهر غازي، صاحب حلب، وغيره من ملوك الشام، فلم ينجده إلا الظاهر، فإنه سير له عسكراً أقاموا عنده، ومنعوا الفرنج عن ولايته. ثم إن الملك العادل خرج من مصر بالعساكر الكثيرة، وقصد مدينة عكا، فصالحه صاحبها الفرنجي على قاعدة استقرت من إطلاق أسرى من المسلمين وغير ذلك، ثم سار إلى حمص، فنزل على بحيرة قدس، وجاءته عساكر الشرق وديار الجزيرة، ودخل إلى بلاد طرابلس، وحاصر موضعاً يسمى القليعات، وأخذه صلحاً، وأطلق صاحبه، وغنم ما فيه من دواب وسلاح، وخربه، وتقدم إلى طرابلس، فنهب، وأحرق، وسبى، وغنم وعاد، وكانت مدة مقامه في بلد الفرنج اثني عشر يوماً، وعاد إلى بحير قدس.
وترددت الرسل بينه وبين الفرنج في الصلحخ، فلم تستقر قاعدة، ودخل الشتاء، وطلبت العساكر الشرقية العود إلى بلادهم قبل البرد الشديد، فنزل طائفة من العسكر بحمص عند صاحبها، وعاد إلى دمشق فشتى بها، وعادت عساكر ديار الجزيرة إلى أماكنها.
وكان سبب خروجه من مصر بالعساكر أن أهل قبرس من الفرنج أخذوا عدة قطع من أسطول مصر، وأسروا من فيها، فأرسل العادل إلى صاحب عكا في رد ما أخذ، ويقول: نحن صلح، فلم غدرتم بأصحابنا؟ فاعتذر بأن أهل قبرس ليس لي عليهم حكم، وأن مرجعهم إلى الفرنج الذين بالقسطنطينية، ثم إن أهل قبرس ساروا إلى القسطنطنية بسبب غلاء كان عندهم وتعذرت عليهم الأقوات، وعاد حكم قبرس إلى صاحب عكا، وأعاد العادل مراسلته فلم ينفصل حال، فخرج بالعساكر، وفعل بعكا ما ذكرنا، فأجابه حينئذ صاحبها إلى ما طلب وأطلق الأسرى.

.ذكر الفتنة بخلاط وقتل كثير من أهلها:

لما تم ملك خلاط وأعمالها للملك الأوحد بن العادل سار عنها إلى ملازكرد ليقرر قواعدها أيضاً، ويفعل ما ينبغي أن يفعله فيها، فلما فارق خلاط وثب أهلها على من بها من العسكر فأخرجوه من عندهم، وعصوا، وحصروا القلعة وبها أصحاب الأوحد، ونادوا بشعار شاه أرمن، وإن كان ميتاً، يعنون بذلك رد الملك إلى أصحابه ومماليكه.
فبلغ الخبر إلى الملك الأوحد، فعاد إليهم وقد وافاه عسكر من الجزيرة فقوي بهم، وحصر خلاط، فاختلف أهلها، فمال إليه بعضهم حسداً للآخرين، فملكها، وقتل بها خلقاً كثيراً من أهلها، وأسر جماعة من الأعيان، فسيرهم إلى ميافارقين؛ وكان كل يوم يرسل إليهم يقتل منهم جماعة، فلم يسلم إلا القليل، وذل أهل خلاط بعد هذه الواقعة، وتفرقت كلمة الفتيان وكان الحكم إليهم، وكفي الناس شرهم، فإنهم كانوا قد صاروا يقيمون ملكاً ويقتلون آخر، والسلطنة عندهم لا حكم لها وإنما الحكم لهم وإليهم.

.ذكر ملك أبي بكر بن البهلوان مراغة:

في هذه السنة ملك الأمير نصرة الدين أبو بكر بن البهلوان، صاحب أذربيجان، مدينة مراغة.
وسبب ذلك أن صاحبها علاء الدين قراسنقر مات هذه السنة، وولي بعده ابن له طفل، وقام بتدبير دولته وتربيته خادم كان لأبيه، فعصى عليه أمير كان مع أبيه وجمع جمعاً كثيراً، فأرسل إليه الخادم من عنده من العسكر، فقاتلهم ذلك الأمير، فانهزموا، واستقر ملك ولد علاء الدين، إلا أنه لم تطل أيامه حتى توفي في أول سنة خمس وستمائة، وانقرض أهل بيته، ولم يبق منهم أحد.
فلما توفي سار نصرة الدين أبو بكر من تبريز إلى مراغة فملكها واستولى عل جميع مملكة آل قراسنقر، ما عدا قلعة روين دز فإنها اعتصم بها الخادم، وعنده الخزائن والذخائر، فامتنع بها على الأمير أبي بكر.

.ذكر عزل نصير الدين وزير الخليفة:

كان نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي هذا من أهل الري، من بيت كبير، فقدم بغداد لما ملك مؤيد الدين بن القصاب وزير الخليفة الري، ولقي من الخليفة قبولاً، فجعله نائب الوزارة، ثم جعله وزيراً، وحكمه وجعل ابنه صاحب المخزن.
فلما كان في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة عزل، وأغلق بابه، وكان سبب عزله أنه أساء السيرة مع أكابر مماليك الخليفة، فمنهم أمير الحاج مظفر الدين سنقر المعروف بوجه السبع، فإنه هرب من يده إلى الشام سنة ثلاث وستمائة، فارق الحاج بالمرخوم، وأرسل يعتذر من هربه ويقول: إنني هربت من يد الوزير؛ ثم أتبعه الأمير جمال الدين قشتمر، وهو أخص المماليك وآثرهم عنده، ومضى إلى لرستان وأرسل يعتذر ويقول: إن الوزير يريد أن لا يبقي في خدمة الخليفة أحداً من مماليكه، ولا شك أنه يريد أن يدعي الخلافة؛ وقال الناس في ذلك فأكثروا، وقالوا الشعر، فمن ذلك قول بعضهم:
ألا مبلغ عني الخليفة أحمداً ** توق وقيت السوء ما أنت صانع

وزيرك هذا بين أمرين فيهما ** فعالك، يا خير البرية، ضائع

فإن كان حقاً من سلالة أحمد ** فهذا وزير في الخلافة طامع

وإن كان فيما يدعي غير صادق ** فأضيع ما كانت لديه الصنائع

فعزله، وقيل في سبب ذلك غيره؛ ولما عزل أرسل إلى الخليفة يقول: إنني قدمت إلى هاهنا وليس لي دينار ولا درهم، وقد حصل لي من الأموال والأعلاق النفيسة وغير ذلك ما يزيد على خمسة آلاف دينار؛ ويسأل أن يؤخذ منه الجميع ويفرج عنه ويمكن من المقام بالمشهد أسوة ببعض العلويين.
فأجابه: إننا ما أنعمنا عليك بشيء فنوينا استعادته منك، ولو كان ملء الأرض ذهباً، ونفسك في أمان الله وأماننا، ولم يبلغنا عنك ما تستوجب به ذلك، غير أن الأعداء قد أكثروا فيك، فاختر لنفسك موضعاً تنتقل إليه موفوراً محترماً.
فاختار أن يكون تحت الاستظهار من جانب الخليفة لئلا يتمكن منه العدو فتذهب نفسه، ففعل به ذلك.
وكان حسن السيرة، قريباً إلى الناس، حسن اللقاء لهم والانبساط معهم، عفيفاً عن أموالهم غير ظالم لهم، فلما قبض عاد أمير الحاج من مصر وكان في الخدمة العادلية، وعاد أيضاً قشتمر، وأقيم في النيابة ي الوزارة فخر الدين أبو البدر محمد بن أحمد بن أمسينا الواسطي إلا أنه لم يكن متحكماً.